محاضرة عن “أمير الماء” بمركز الملك فيصل

نظّم مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالرياض، يوم 14 ربيع الثاني 1447هـ (6 أكتوبر 2025م)، محاضرة بعنوان “أمير الماء: محمد الفيصل” قدّمها الباحث مايكل كريستوفر لو أستاذ التاريخ ومدير مركز الشرق الأوسط بجامعة يوتا، تناول فيها تجربة الأمير محمد الفيصل رحمه الله في مجال المياه والتحلية، وما شكّلته من إسهام بارز في مسيرة التنمية الوطنية. وقد جاءت هذه المحاضرة لتفتح نافذة على جانب مهم من سيرة الأمير، وتكشف عن أبعاد فكره العملي ورؤيته الاستباقية.
أوضح الباحث في مستهل حديثه أن وعي الأمير بقضية المياه نشأ منذ طفولته وشبابه في مدينة جدة، حين كانت المدينة تعاني من أزمة حقيقية في تلبية الاحتياجات اليومية من المياه، حيثكان الأهالي يعتمدون على مياه الآبار المالحة، أو على ما يُجلب من الطائف بكلفة عالية، وهو ما جعله يدرك أن الماء ليس مجرد مورد؛ بل قضية مصيرية تتعلق بالحياة والاستقرار. هذا الإدراك المبكر رافقه في سنوات دراسته في الولايات المتحدة، فقد وجد وفرة الأنهار والبحيرات هناك تقابَل بندرة خانقة في بلاده، فتأصل في ذهنه أن البحث عن حلول مبتكرة للماء ضرورة وطنية لا تقبل التأجيل.
وأشار الباحث إلى أن هذه الرؤية دفعت الأمير إلى طرح أفكار بدت غير مألوفة في زمنها، مثل جلب قطع من جبال جليدية من القطب الجنوبي لتذويبها على شواطئ البحر الأحمر بالمملكة، أو تفجير منخفضات عملاقة في عمق الصحراء لتجميع مياه البحر. ورغم أن تلك المشاريع لم تُنفّذ، فإنها عبّرت عن خيال واسع وإصرار على مواجهة الأزمة بلا قيود ذهنية، كما أظهرت قدرته على التفكير في حلول غير تقليدية لقضية وجودية.
وبيّن الباحث أن الأمير سرعان ما انتقل من مرحلة الأفكار الجريئة إلى العمل المؤسسي، حيث دأب على إقناع والده الملك فيصل رحمه الله والجهات المعنية لإطلاق مشروع شامل للتحلية لا يقتصر على شراء محطات صغيرة جاهزة. وقد أثمرت جهوده عن إبرام اتفاق مهم في منتصف الستينيات لإنشاء محطة مزدوجة لإنتاج المياه والكهرباء في مدينة جدة، اعتُبر حينها نقطة تحول في مسيرة معالجة العطش، كما شكّل خطوة أولى لبناء استراتيجية وطنية متكاملة في هذا المجال.
ولفت مايكل كريستوفر لو إلى أن دور الأمير محمد الفيصل لميقتصر على التنسيق الدبلوماسي في مشاريع المياه، بل تعزّزحين تولّى مسؤولية إدارة تحلية المياه بوزارة الزراعة والمياه، التيشكّلت النواة الأولى للمؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة، وتمثلتإنجازاتها في إطلاق أولى محطات التحلية الحديثة في مُدن: (الوجه، وضبا، وجدة، والخبر)، وتأسيس برنامج وطني متكامللتحلية مياه البحر. ومع إنشاء المؤسسة بموجب مرسوم ملكي عام1974م، واصل الأمير قيادة المشروع بتحويل التحلية منمبادرات محدودة إلى صناعة وطنية استراتيجية، فأنشأ محطاتكبرى على سواحل البحر الأحمر والخليج العربي، وربطهابشبكات تنقل المياه إلى المدن الداخلية، مما أسهم في تحسيننوعية الحياة وتلبية احتياجات النمو السكاني المتزايد. وأكدالباحث أن هذه الجهود أرست الأساس الذي جعل المملكة لاحقًافي موقع الصدارة عالميًّا في إنتاج المياه المحلاة، وهو إنجازيرتبط مباشرة بالرؤية المبكرة التي تبناها الأمير محمد الفيصل.
كما أضاف أن إسهامات الأمير لم تقتصر على البنية التحتية فحسب، بل شملت أيضًا بناء كوادر وطنية قادرة على إدارة وتشغيل وصيانة المحطات. فقد كان يؤمن أن التكنولوجيا المستوردة لا تكفي، وأن الاعتماد على الكفاءات السعودية هو الضمان الحقيقي لاستمرارية هذه الصناعة. ومن هنا حرص على تشجيع برامج التدريب والتأهيل، وعلى نقل الخبرة إلى جيل جديد من المهندسين والفنيين.
وركّز الباحث على أن اهتمام الأمير بالماء لم يكن منفصلًا عن رؤيته الشاملة للتنمية، إذ كان يعتبر المياه ركيزة أساسية لا يمكن أن ينهض أي قطاع من دونها، سواء في الزراعة أو الصناعة أو الإسكان. ومن هنا ارتبط اسمه بلقب “أمير الماء”، الذي أُطلق عليه تقديرًا لريادته في تحويل أزمة العطش إلى فرصة للتقدم، وتأكيدًا على أن الأمن المائي جزء لا يتجزأ من الأمن الوطني.
وتوقف مايكل كريستوفر لو كذلك عند الجانب الإنساني في شخصية الأمير محمد الفيصل الذي ظل يذكّر من حوله أن الماء حق للجميع، وأن المسؤولية تقتضي ضمان وصوله إلى كل بيت بصرف النظر عن التكاليف. وقد نقل عنه قوله إن توفير الماء النقي للمواطنين لا يقل أهمية عن أي إنجاز اقتصادي أو مالي، بل هو الأساس الذي تقوم عليه الحياة الكريمة. هذه القناعة جعلته يتعامل مع مشروعات التحلية كقضية وطنية في المقام الأول، وليست مجرد استثمار تقني أو مالي.
وشدّد الباحث على أن إرث محمد الفيصل في مجال المياه سيظل حاضرًا في مسيرة المملكة، ليس فقط باعتباره سجلًّا منجزًا في قطاع التحلية، وإنما أيضًا بوصفه درسًا في أن الجرأة على التفكير والالتزام بالعمل يمكن أن يحوّلا التحديات الكبرى إلى إنجازات راسخة. ومن هنا فإن لقب “أمير الماء” لم يكن وصفًا عابرًا، بل شهادة على مسيرة رجل أدرك مبكرًا أن الماء هو أساس الوجود، وأن الاستثمار فيه هو استثمار في مستقبل الأوطان.
وفي ختام المحاضرة، شهدت القاعة مداخلات من عدد من المختصين والمسؤولين، من بينهم المهندس شارخ الشارخ نائب رئيس هيئة المياه للشؤون الفنية والمشروعات، والمهندس عبدالعزيز الشيباني وكيل وزارة البيئة والمياه والزراعة، والدكتور خالد باطرفي، والدكتور يحيى محمود بن جنيد؛ تناولت في مجملها التطورات التقنية في مجال تحلية المياه، وجهود المملكة في تعزيز استدامة مواردها المائية ورفع كفاءة مشروعاتها، والتقدير لدور الأمير محمد الفيصل. كما تطرقت المداخلات إلى أهمية الشراكات الدولية، وتبنّي التقنيات الحديثة في تحقيق الأمن المائي، مؤكدين أن تجربة المملكة تمثل نموذجًا عالميًا يجمع بين الابتكار والاستدامة في إدارة الموارد.